استعن بالله ولا تعجز
وليد إبراهيم عبدالله الهودلي
وليد إبراهيم عبدالله الهودلي
اديب فلسطيني وأسير محرر من مواليد مخيم الجلزون قضاء رام الله سنة 1960 ويرجع أصله إلى العباسية قضاء مدينة يافا وهو خريج معهد المعلمين في رام الله.
استعن بالله ولا تعجز
بسم الله الرحمن الرحيم
كم نحن
بحاجة إلى هذه المعادلة النبويّة الشريفة، معادلة ترتفع بها الجبهة المعنوية
وتصطفّ مشاعر القوّة والعزائم النبيلة والهمم العالية خلف إرادة من حديد لا تلين،
فمن يستعن بالله لن تتسلّل لروحه فيروسات العجز أبداً.
إن من
أخطر ما يوهن النفس البشرية ولا يجعلها تعطي كلّ ما لديها من قدرات هو الشعور
بالعجز أو انّها تستعلي بما لديها من قدرات فتصاب بالاستكبار، مرضان خطيران:
الاستضعاف أو الاستكبار، فكان لقلب سورة الفاتحة أمّ الكتاب أن تعالج هذين المرضين
الفتّاكين، جاءت هذه الآية الكريمة "إياك نعبد وإياك نستعين": (كما يؤكد
ذلك الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في كتابه فلسفة التربية الإسلامية): لتبدد الشعور
بالاستكبار فالذي يعلن بأنه عبد لله فإنه بذلك يتحرّر من مشاعر الاستكبار، ومن
يعلن أنه يستعين بالله العزيز الجبّار فإنه يتحرّر لا محالة من الشعور بالاستضعاف،
فالمؤمن يسير بين خطّين متوازيين فلا تزلّ قدمه فيقع بمستنقع الاستضعاف الذي يجعله
مهاناً ذليلاً خاضعاً غارقاً في طبائع الاستبداد التي تحدّث عنها الكواكبي في
كتابه الشهير طبائع الاستبداد، وكذلك لا يستبدّ بغيره إذا ملك أسباب القوّة
والتحكّم برقاب الناس فيقع في الاستكبار بل يبقى عبداً لله متحرّراً من عبودية
غيره، عزيزاً كريماً قويّاً لا يعجز أبداً.
إن
الاستعانة بالله تفتح علينا أبواب الخير كلّه فمنازل إياك نعبد وإياك نستعين -الستة
والستين- والتي أبدع في شرحها ابن القيّم في كتابه القيّم " مدارج السالكين
في منازل إياك نعبد وإياك نستعين" كلّها تفتح أبوابها لهذا المؤمن المستعين
بالله، الذي سيتبوأ درجة تزكوية عالية، وسيتحقّق بصفات علوية عظيمة، ترتقي بنفسه
ارتقاء عظيما، سيبدأ باليقظة من رقاد الغفلة، ثم ستنجلي فكرة التوحيد التي تنقذه
من براثن الشرك، فيصبح ذو بصيرة وعزم، ثم يرتقي في درجات الصديقين من محبة وتعظيم
وإخلاص وتوبة وإنابة ورجاء وإشفاق وخشوع وإخبات واستقامة وإحسان ورضا وتوكل وشكر
وصدق وسكينة وطمأنينة وهمة وعرفان ... الخ
فلن
يحقّق المؤمن سيره في تحقيق مرضاة ربّه في المجالات كلّها إلا إذا استعان بالله،
وبدّد كلّ أشكال العجز والكسل، هذه المعادلة النبويّة -فكما تفعل فعلها في ميدان
النفس فتزرع في أعماق الوجدان إرادة التحرير من كلّ دواعي العجز والكسل- أيضا تفعل
فعلها في ميدان الجهاد والعمل، تماما كما هو حال الشعب الفلسطيني المشتبك مع هذا
الاحتلال البغيض، أخطر ما يواجهه هو أن يوهمه هذا المحتلّ الغاصب بأنّه القويّ
القادر على قهره وهزيمته، بل هو صاحب الجيش الذي لا يُقهر، ولو اجتمعت عليه الجيوش
العربية لهزمها هزيمة نكراء، هنا تتقدّم جحافل الايمان ليوقن هذا الشعب المقاوم
عندما يستعين بالله أنّ الله معه بقوّته وجبروته وبالتالي تتبدّد روح الهزيمة
وتتملّكها روح الانتصار، لذلك كان من المأثورات التي يقرأها المؤمن كلّ
صباح:" اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل واعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك
من غلبة الدين وقهر الرجال" ليخرج منها بروح قويّة عظيمة قادرة على تحقيق
الانتصار، كما هو الحال مثلا في غزّة؛ حيث وقفت شوكة في حلوقهم، وكذلك ما تشهده
فلسطين من مقاومة بإمكانيات بسيطة، وكيف تحقّقت معادلة الردع لولا ما وقر في الصدر
من قوّة وروح إيمانية عالية، وما عليه من وصل لهذه القلوب بمصدر القوّة المطلقة في
هذه الحياة، استعانة بالله لا ينطفئ أوارها أبداً.
إنّ
الاستعانة بالله لها تجليّات عظيمة، إذ تمنحك ثقة عالية بربّك، فتوقن بالإجابة
والمدد الالهي مهما ادلهمّت الخطوب، وتكاثفت الابتلاءات الصعبة القاسية، فكم من
مناج لربّه في ظلمة الزنازين في مواجهة غير متكافئة أبدا، شعر بقوّة وعزّة تعمر
صدره فينتصر بها على عدوّه، فمثلا من الواقع الفلسطيني كانوا يقولون لنا: من أنت؟
المخابرات الإسرائيلية بكل قدراتها وخبراتها وإمكاناتها في كفة وأنت في كفّة هل
تحسب أنّك ستتغلّب علينا؟ المسألة فقط مسألة وقت، اختصر على نفسك عذابا واعترف خير
لك، كنّا عندها نقول في أنفسنا: كفّتنا هي الغالبة فالله معنا، وهو مولانا: ( ذلك
بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم)، وهنا حقّ لنا أن تستذكر
مقولة ابن عطاء الله السكندري:" ما توقّف مطلب أنت طالبه بربّك وما تيسّر
مطلب أنت طالبه بنفسك"، وكان عمر رضي الله عنه يقول: أنا لا أحمل هم
الاستجابة وإنما أحمل هم الدعاء فإن ألهمني الله الدعاء كانت الإجابة.
فالاستعانة
بالله قوة ومنعة وثقة بالذات وقدرتها في الوصول الى أهدافها، فرق شاسع بين من يسعى
ويكدح ويواجه الباطل دون شعوره بقوّة الله معه، ومن هو على يقين بأنّ القوّة
العظمى بهذا الوجود معه، وهي التي بيدها كلّ شيء وقادرة على كلّ شيء وهي نصيرة
المستضعفين وقاصمة ظهور الجبابرة والمستكبرين، ولن تتوانى في نصرة من يحتمي
بجنابها ويلوذ بحماها، هناك قوّة ماديّة فقط بينما هنا تجتمع القوّة الماديّة مع
القوّة الروحيّة ومدد السماء.
وتثمر
معادلة الاستعانة بالله أيضا ثمرات كثيرة منها المثابرة والجلد والنفس الطويل في
القيام بالمهام الصعبة لأن المستعين بالله يدرك أهميّة ما يقوم به من أهداف تحقّق
مرضاة الله التي تنعكس على صاحبها في الدنيا القصيرة بما ينال من نجاح وسعادة
وكذلك بما يترصّد له من حياة سرمدية لا حدود لمتاعها وما أعدّ الله فيها لعباده
المتقين.
ومن
الوسائل الهامّة لتحقيق الاستعانة كثرة الدعاء، وأن يعتاد المسلم على أن يدعو الله
في أموره كلّها -صغيرها وكبيرها-، وقد ورد عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ذلك، وكان إذا انقطع شسع نعل أحدهم دعا الله، فالدعاء هو الوسيلة الأمثل
لتذكر الاستعانة وما فيها من قوة وبركة وخير.
ثمّة
لا بدّ من التأكيد أن هذا عند المؤمن يكون مقرونا بالعمل والأخذ بالأسباب على أفضل
الوجوه الممكنة ولا يمكن أن يكون مدعاة للتواكل والتقصير والعجز والكسل، لذلك كان
الحديث جامع للأمرين معا: استعن بالله ولا تعجز وإذا جاز لنا التوضيح فلا تعجز عن
العمل والأخذ بالأسباب كما يجب، والاستعانة تزودك بطاقة إيجابية عالية للمثابرة
والعمل.
وكذلك
فإن الاستعانة بالله استغناء عن الاستعانة بغيره بما فيها من ذلّ وخضوع وتبعية،
كما تفعل الدول التابعة الفقيرة؛ إذ تستعين بالدول المستكبرة وصندوق النقد الدولي
والتي تكرّس المزيد من الخضوع والتبعية والتخلّف، وتبتعد هذه الدول عن البناء
الاقتصادي الحرّ القائم على الاعتماد على الذات، لذلك فإن الاستعانة بالله حصرية
ترفض أن نشركها بالاستعانة بغيره سبحانه، وهذا يُنتج دول مستقلة ومحرّرة بعيداً عن
أن تكون مستلبة الإرادة والسيادة، لأن هذا العالم الطاغي بقيادة النظام الرأس مالي
لا يعطي لوجه الله تعالى أو لسواد عيوننا، بل يعطي لتُفتح أسواقنا لبضائعه،
ولتكريس التبعية الاقتصادية له، والتي تتبعها فوراً التبعية السياسية، لذلك قالوا
في التفسير: إياك نعبد وإياك نستعين قدّم المفعول على الفاعل لإفادة الحصر أي لا
نعبد إلا الله ولا نستعين إلا بالله.
(استعن
بالله ولا تعجز) هي: معادلة حياة كريمة عظيمة، ترسي قواعد القوة والعمل والسيادة
والتحرّر، ودخول كلّ قواعد الفعل والاقتدار والنجاح والريادة الحضارية في كلّ
ميادين الحياة.
بقلم: وليد الهودلي
مدير مركز بيت المقدس للأدب
2024-03-26
منذ 8 أشهر