القدوة وأثرها في بناء الجيل
جهاد داود سليمان شحادة
جهاد داود سليمان شحادة
فلسطيني من قرية جماعين قضاء نابلس، وهو متخصص في الشريعة الإسلامية، وباحث في مجال الدراسات الأصولية المتعلقة بفقه النوازل المعاصرة، مثل: فقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه التنزيل وفقه التدرّج وتحقيق المناط،
القدوة وأثرها في بناء الجيل
الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على رسول الله قائدنا وقدوتنا، وعلى آله وصحبه أجمعين، الذين
استنوا بسنته، واهتدوا بهديه، ومن اقتدى بهم إلى يوم الدين، أما بعد:
إن أسلوب القدوة الحسنة يعد من
أنجع وأقوى الأساليب التربوية التي تؤثر في سلوك الأفراد، وتؤكد قدرة الإنسان واستطاعته التخلي عن الرذائل
والتحلي بالفضائل[1]، وذلك لأن الحاجة إلى القدوة
أمر مغروس في النفس الإنسانية، فهو يبدأ مع الوليد ثم ينمو معه، فتجد الفتى الصغير
يقلد والده، والفتاة تقلد والدتها، ثم يتطور هذا التقليد والاقتداء ليصير للمعلم
والمعلمة، وكلما كبر الطفل تنامت لديه الحاجة إلى تقليد من هو أكبر منه، سواء
سنّاً أو علماً أو خبرة أو شكلاً أو غير ذلك، ويصير يبحث عن المثال والقدوة الذي
تكتمل شخصيته بتقليده، ويكون ذلك البحث بحسب مؤثرات البيئة المحيطة به، وبما يزرع
في عقله من ثقافة وأفكار، بل إن التقليد لا يقتصر على الأفراد، فهو أيضاً سنّة في
المجتمعات، فتجد المجتمع الضعيف يقلد القوي، والأمة المغلوبة تقلد الغالبة، لعلها
بتقليدها تصل إلى مصافها ومرتبتها.
لذلك فإن الإسلام
عني بموضوع القدوة، وأولاها الاهتمام المناسب، لأنها سبب رئيسي في صلاح المجتمع
وفساده، كما في قوله I: ﴿وَكَذَٰلِكَ مَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي
قَرۡيَة مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا
عَلَىٰٓ أُمَّة وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ ﴾ [2]، حيث كانت القدوة السيئة سبب في التمسك بالموروث الفاسد وعدم اتباع الرسل، ولأهميتها
فقد وجه القرآن الكريم المسلمين إلى اتخاذ القدوة الصالحة من سيدنا إبراهيم ومَن
معه مِن الأنبياء عليهم السلام[3]؛ لأن صلاحهم ثابت دائم لا يتأثر بمعتقدات
الأقوام والآباء، حيث يقول I: ﴿ قَدۡ
كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَة فِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ إِذۡ
قَالُواْ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَٰٓؤُاْ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن
دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةُ
وَٱلۡبَغۡضَآءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥٓ إِلَّا قَوۡلَ
إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسۡتَغۡفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمۡلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ
مِن شَيۡءۖ رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ
ٱلۡمَصِيرُ ﴾ [4].
1.
وقد وجه القرآن الكريم المسلمين إلى الاقتداء برسول الله r، فقال I: ﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [5]، وقد جاء هذا التوجيه في
أصعب المواقف التي تظهر فيها معادن الرجال وطبائع النفوس، وذلك في غزوة الأحزاب
عند اشتداد حصار قريش ومن معها من قبائل العرب من أمام المسلمين في المدينة
المنورة، لاجتثاث شأفة المسلمين والقضاء عليهم، يضاف إليهم غدر يهود بني قريظة من
خلفهم، فوصف الله I حالة المسلمين بقوله I: ﴿ إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ
أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ
وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً﴾[6]، في هذه اللحظات العصيبة كان رسول الله r هو الذي يقود الصفوف ويخطط للمجابهة ويبث
الأمل في النفوس ويرفع الهمم، وينادي: ( الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح
الله ونصره)[7]، فكانت النتيجة كما صورتها الآية التي أعقبت آية التأسي والاقتداء
برسول الله r: ﴿وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ
قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ
وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰناً وَتَسۡلِيماً﴾ [8]، حيث استطاعت القدوة الصالحة ممثلة برسول الله r - رغم ضخامة التحدي وصعوبة الموقف- تغيير النفوس وإعلاء الهمم،
وازدياد الإيمان والثقة بنصر الله I، مع التسليم الكامل والانقياد التام لإرادة
الله U.
إن أجيال المسلمين في كل وقت
وخاصة في أيامنا هذه بحاجة إلى القدوة التي تمثل الصورة الشاملة والنموذج الكامل
في كل المجالات، القدوة التي تجمع بين المثالية والواقعية، حتى يرجع إليها
المسلم خلال مسيرة حياته، يقتبس من أنوارها،
ويهتدي بسيرتها، ويقتفي أثرها، يحتاج المسلم اليوم إلى القدوة التي تصلح أن يسير
على خطاها وينهل من معينها خلال مراحل حياته طولاً، كما تصلح أن يمتثلها ويقتدي
بها في شتى مجالات حياته عرضاً، يحتاج المسلم اليوم إلى القدوة التي تتصف بالعصمة
الخالية من الزلل والضعف والانحراف من جهة، كما تتصف بالبشرية التي تتيح للمسلم
القدرة على الاقتداء والتأسي بها من جهة أخرى، ولئلا يسوغ لنفسه ولغيره ضعف همته
ووهن عزيمته في عدم التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، ولا تجتمع صفات القدوة
الشاملة إلا في الأنبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم رسول الله r، وإذا كان أصحاب رسول الله r قد بلغوا الذروة بين أجيال البشرية إيماناً
وطاعة وسمواً وأخلاقاً، فما ذلك إلا للنور الذي اتبعوه، والقدوة التي امتثلوها في
حياتهم، لحظة بلحظة وخطوة بخطوة، وما كانت حياتهم إلا انعكاساً متواضعاً لرسول
الله r[9]، على أنهم مع علو قدمهم قد تمايزوا فيما بينهم في مجالات سموهم،
وجوانب رفعتهم، فما تجده في القمة عند البعض قد يدانيها قليلاً عند البعض الآخر،
وما لم يبلغ بعضهم الذروة فيه فإن غيرهم قد بلغها وامتلك زمامها، وإنّ هذا لا
يعيبهم، فلقد بلغوا هذه المنزلة العظيمة، والمكانة الرفيعة رغم بشريتهم وعدم عصمتهم،
وإذا كنا نقتدي بهم فما ذاك إلا لأنهم قد اكتسبوا صفاتهم من رسول الله r، على أننا يجب ألا نغفل عن الصورة المثلى والقدوة العظمى سيدنا
محمد r، فهو الأصل وهم y الفرع والتابع، وهو u القدوة الشاملة وهم y القدوة الجزئية.
وإن مما يدلل على أهمية القدوة
الصالحة، أن القيم العليا والمُثل السامقة تبقى في مجالها النظري ما لم تجد من
يتمثلها على الأرض، ويعيش بها في الناس، وإذا أريد أن أن يكتب لها الحياة فيجب أن
يكون من يحملها بقدر وسموّ هذه القيم والمثل، وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد بلغت
من السموّ أعلاه، ومن النقاء أصفاه، ومن الشمول أوسعه، فلا بد أن يكون القدوة في
ذلك قد بلغ هذا المبلغ، وهذه القدوة لا يمكن أن تكون متمثلة في صورتها الأولى إلا
بمن نزلت عليه هذه الشريعة، وهو رسول الله r، لذلك فإن أم المؤمنين عائشة ل عندما سُئلت
عن خلق النبي r قالت: (كان خُلُقه القرآن)[10]، ثمّ بعد ذلك
ينهل ويقتدي الصحابة ومن بعدهم من رسول الله r، كمثال واقعي تطبيقي لهذه الشريعة، وبقدر ما
يقتربون من تمثّل القدوة بقدر ما ينزلون أحكام الشريعة على واقع الحياة فتسودها،
ومن هنا فإننا نحتاج في كل زمان إلى التأسي والاقتداء برسول الله r لكي نعيد إحياء أحكام الإسلام.
واليوم في ذكرى ميلاد الحبيب
المصطفى r، وفي ظل التحديات الضخمة التي تواجهها الأمة
الإسلامية التي تحاول منعها من استعادة دورها بين الأمم، وذلك من خلال إبعاد أجيال
المسلمين عن دينهم وإفسادهم وتغريبهم، وتشتيت اهتمامهم عن التأسي برسول الله r القدوة الحقيقية لهم، باستصناع قدوات فاسدة تجذبهم بلذة الشهوات، وتغريهم
بمنطق الأهواء، وتهلكهم بمادة المصلحة الموهومة، فإننا بحاجة إلى غرس محبة رسول
الله r بإحياء سيرته وحياته ومنهجه بين المسلمين.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الحازمي، خالد بن حامد، أصول التربية الإسلامية، 378، عالم الكتب، الرياض، ط1، 1420 ه.
- الزخرف، 23.
- الطبري، محمد بن جرير (ت:310 ه)، جامع البيان عن تأويل القرآن، 22/566، ت: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، الجيزة، ط1، 1422 ه.
- الممتحنة، 4.
- الأحزاب، 21.
- الأحزاب، 10-11.
- البيهقي، أحمد بن الحسين (ت: 458 ه)، دلائل النبوة، 3/403، ت: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1408 ه. المباركفوري، صفي الرحمن، الرحيق المختوم، 311، مؤسسة الريان، بيروت، ط1، 1434 ه.
- الأحزاب، 22.
- خالد، خالد محمد، رجال حول الرسول، 6، دار الفكر، بيروت، 1421 ه.
- أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل (ت: 241 ه)، المسند، ح: 25302، 42/183، ت: شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421 ه. صححه الأرناؤوط.
2024-03-29
منذ 8 أشهر